في «احتباس الضوء» للدكتور معجب العدواني..

قراءات ثقافية في النص المقصيِّ و المُهمَّش.

ثلث الدماغ البشري مخصصٌ لحاسة البصر،ولذلك من الصعوبة معرفة آليات الإبصار لدينا . هذا ما أورده ديفيد إيجلمان في كتابه(الدماغ )ويكشف عن قصة حقيقية لرجل كفيف يدعى السيد مايك مايو الذي فقد بصره وهو في الرابعة من العمر في حادث انفجار كيميائي أفقده القرنيتين وظلت العينان لا تقومان بواجبهما في استقبال الفوتونات وأصبح ضريراً ولكنه تدرَّب على استعمال البدائل المساعدة مثل العصا واستخدام العكازة الصوتية في المشي على الممرات وحتى على المنحدرات ثم بعد أربعين سنة استطاع الأطباء عن طريق العلاج بالخلايا الجذعية من زرع قرنتين له وكانت العملية ناجحة طبياً ، ولكن عندما بدأت القرنيتان للسيد مايك باستقبال الضوء وتركيزه بالمعدلات المناسبة كان الدماغ غير مستوعب تلك المعطيات الجديدة،وبالتالي لم يستطع الدماغ ترجمة المعطيات التي تستقبلها القرنيتان المزروعتان وبدأ السيد مايك ينظر إلى أولاده ويبتسم لهم،ولكنه لم يكن قادراً على تصور وجوههم أو تحديد أي منهم باسمه من شكله وذكر أنه لم يستطع التعرُّف على وجوههم،وقد عبَّر عن إحساسه فقال : يا إلهي لقد طار دماغي ! وقد حصل كل ذلك أمام كاميرات التلفزيون التي حضرت لترصد لحظة إبصار الحياة،وقال السيد مايك معبراً عن تلك اللحظة : إنَّ هناك ضوءاً أو كمية كبيرة من الصور تغزو عيني ثم تتحول فجأة هذه المعطيات البصرية كلها إلى شيء عجيب وخارق،والنتيجة الصادمة أنَّ السيد مايك بعد العملية عند خروجه للعالم الخارجي وفي محاولة صعبة وبائسة لاستيعاب ما يراه أضحى غير قادر على إدراك الأشياء من حوله،والأكيد أنه بعد العملية غدا غير مستطيع حتى على ممارسة رياضة التزلج التي كان بارعاً فيها ويعشقها كثيراً حينما كان ضريراً وذلك بسبب عدم إدراكه للأعماق وصعوبة التمييز بين الأشجار والظلال والحفر،وهكذا بينما كانت قبل العملية كلها أشياء مظلمة ومنطقة عماء،والدرس المستفاد من تجربة السيد مايك هو أنَّ الجهاز البصري لا يعمل مثل الكاميرا ونظام الإبصار ليس ببساطة كما لو كنتَ تكشف الغطاء عن عدسات الكاميرا ؛ لأنَّ الإبصار يحتاج إلى أشياء أخرى أكثر من وسيلة العينين في مقدمة الرأس . تذكرت هذه الواقعة وأنا أقرأ العتبة الأولى في كتاب ( احتباس الضوء ، بلاغة الإعاقة البصرية) للأستاذ الدكتور معجب العدواني الصادر عن دار أدب للنشر والتوزيع ،والكتاب يشتمل على الأقسام التالية : المقدمة،التمهيد،والفصل الأول : من التحديق إلى احتباس الضوء ، الفصل الثاني : الشك من النقد إلى الإبداع ، الفصل الثالث : حكاية الشعر وخاتمته ،وأخيراً الخاتمة وقائمة المصادر والمراجع . لم يرغب المؤلف الكريم الإطناب المسهب في المقدمة وإنما اقتحم بنا ،قراء ومتلقين، مباشرة في مواجهة مع الكتاب المشروع عن طريق بثِّ الأسئلة الممهدة والاستفسارات المهيئة لمتون الدراسات والمباحث ، فصاغت المقدمة سؤالين محوريين هما : ما الذي يدفع إلى إطلاق هذا البعد النظري من الكتاب ونظيره التطبيقي فيما يتصل بالإعاقة ؟ والسؤال الآخر : ما الإضافة التي يمكن أن تجنيها الثقافة العربية نتيجة ذلك ؟ ولم يهدر الكتاب كعادته الوقت في اللف حول الإجابة وإنما عاجلنا بسرعة إجاباته المطروحة قصداً للتبيان وتوطئة للمباحث التي سيتناولها الكتاب في تفصيلاته المبوبة في الفصول الثلاثة . ثم جاء التمهيد في توطئة وافرة،فتناول التمهيد تحفيزاً السؤال الكبير : ما الأدب ؟ وسؤالاً آخر على نفس القدر من الأهمية وهو : كيف تشكِّل اللغة،في حضورها وعلاقاتها بالأدب، الإبداع الأدبي ؟ وتفرع منه تساؤل وهو : ما الذي يجعل الاتصال اللغوي عملاً فنياً ؟ وهو استفسار عن الكيفية التى يتلامس الباحثون فيها مع الظاهرة اللغوية في النص الأدبي مع إعطاء الأولوية لمداخلة ترنو لحضور الإعاقة البصرية في البحث النقدي عربياً وغربياً ، والتمهيد يومئ بجلاء إلى أنَّ النص في قراءاته وفي تعريف جنسه وفي معالجة علاقته باللغة كان، ومازال، محط أنظار المنظرين في كل حقل ذي علاقة مثل اللسانيات والفلسفة والنقد وعلم الاجتماع وعلم النفس التحليلي وكذلك علوم البلاغة العربية التي حاولت أن تقوم بدورها منذ زمن مبكر في الجهود التي قام بها البلاغيون العرب القدامى خاصة عبدالقاهر الجرجاني الذي جلّى مفهوم الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم ،وأحدثت مؤلفاته نقلة نوعية في الدرس البلاغي عن طريق الارتقاء بمفهوم الإعجاز القرآني من الشمول والعموم بذكر القصص والأخبار عن السابقين إلى الحضور الخاص في السياق التركيبي الجمالي،وأما في العصر الحديث فقد تفردت المؤلفات الغربية بقصب السبق في الدراسات اللسانية وتمركزت حول الجهود التي قام اللساني رومان جاكوبسون في دراساته عن الأنموذج اللغوي المعروف بوظائف الاتصال وباقتراحه تحديد وظيفة لغوية لكل عنصر من عناصر الاتصال وقدم مقترحاً (الأدبية) لدراسة مقومات العمل الأدبي ، وهي الآلية التي تجعل الخطاب عملاً أدبياً من حيث الاستعمال اللغوي الخارج عن نطاق المألوفية والمفارق للغة العادية،وانزياح الاستخدام اللغوي عن التركيب المعتاد وصولاً إلى ما يعبِّر عنه الشكلانيون الروس (إنَّ مهمة الفن نزع الألفة عن الأشياء التي باتت مكررة أو آلية )وجرى تطبيق مباحثهم على الإنتاج الأدبي،وقد أدى النموذج العام لقراءة اللغةلانبثاق عدد من التيارات النقدية مثل البنيوية في تقصيها للعلاقات بين الدال والمدلول والتفكيكية التي ذهبت إلى لعبة الدوال وأن المعنى يُنتج بتمييز أحد الدوال عن الآخر ،ثم جاءت الموجة التي كسرت التراتب الإجباري بين الثنائيات المتضادة في الذكر والأنثى،وهذه الموجة تحديداً أسهمت بفاعلية في إنتاج نقد الإعاقة الساعي إلى دراسة الإعاقات ومنها البصرية بالطبع وإلقاء الضوء على هذه الظاهرة نقدياً باعتبارها رافداً للنقد الثقافي الجديد،والكتاب سعي دؤوبٌ في إشاعة هذه المداخلات في الثقافة العربية،وإنتاج مفاهيم جديدة وتطبيق أخرى كي تتحقق الأهداف من هذا الدرس في حقول إبداعية متنوعة كالشعر والرواية والفن التشكيلي،ولعل من الأسئلة المحفزة في نظرية الإعاقة النقدية السؤال التالي : كيف يكون تمثيل الإعاقة في الآداب والفنون ؟وكذلك كيف تُبنى الشخوص في تلك الأعمال ؟ وهل للإعاقة دورٌ في التحفيز على الإبداع ؟ وغيرها من الاستفسارات التي ركزت عليها دراسات الإعاقة ؛ لأنَّ الإعاقة جزءٌ من هوية الشخصية ، ولذلك كان التمهيد وافياً ومتواشجاً مع التطبيق في الفصول الثلاثة : الفصل الأول(التحديق إلى احتباس الضوء) وفيه دراستان ، الأولى عن تجربة التشكيلية الكفيفة نورة حمود ودراسة دور الفنانة في لوحاتها التي كانت ترسمها عن بعض العيون المفتوحة في بعض لوحاتها مما شكّل ما يمكن تأويله بالتعويض، والمراهنة على مفهوم (مرآوية التحديق)وعلى مكونين هما اللوحة والمتلقي، إذ تنطلق تأملات المتلقي في أعمال المعاقين بصرياً وهنا تحلُّ الدهشة التي تنتابه بمجرد ظهور امرأة كفيفة في العمل لتحدث لحظة فتح أعيننا مشدوهين رغبة في الإحاطة بالمشهدية التي لا تفصل الفن عن نظرة التقليل من الفنان المهمش، والدراسة الأخرى هي تجربة رواية ( المحيط الانجليزي) للكاتب البحريني فريد رمضان والتي اعتمدت على المادة التاريخية بطريقة مغايرة ،وفيها اختارت الرواية العمى للشخصيات الثلاث لتقدم الدليل على احتباس الضوء الذي هيمن على أحداث الرواية وتمكن منها،وليصل الجميع إلى طريق تتجاوز الذوات أمكنتها وهواجسها ، والرواية تقدم البعد الإنساني للشخوص وحسب دونما إقصاء . وفي الفصل الثاني :( الشك من النقد إلى الإبداع ) فقدمت الدراسة قراءة لمنظومة الشك عند طه حسين في كتاب (الأيام ) وعالجت القراءة المكونات السردية في الأيام والاشتغال على منظومة الشك وتتبعها ثم تفكيكها والسعي لكشف النوع والوظيفة من خلال أربعة مستويات هي : مستوى الشخصية الواردة في العمل،ومستوى السارد المتمثل في متن الكتاب،ومستوى الكاتب في العمل،والمستوى الأخير خاص بتلقي(الأيام) فيما يتصل بالمؤلف طه حسين وبما يتصل بتلقي الكتاب عند غيره من النقاد والدارسين ، وكل ذلك محاولة للإجابة عن كيفية رؤية المؤلف كتابه باعتباره شكلاً سردياً محدداً،وكيفية رؤية الآخرين لكتاب الأيام بوصفه سرداً .وفي الفصل الأخير قدمت الدراسة(حكاية الشعر وخاتمته)قراءتين ،الأولى عن الشاعر الكويتي المكفوف صقر الشبيب من خلال العنوان التالي (بلاغة الفقد:الشاعر المكفوف بوصفه حكاء) وهذا العنوان يمثل ثلاثة محاور: الشعر ، الإعاقة، الحكاية في محاولة لدراسة تفسير العلاقة في تحولات الشاعر إلى حكَّاء في وسيط ظرفي خاص تسيطر فيه الإعاقة على صاحبها،وقدمت الدراسة مقترحات للاشتغال على التجربة استناداً على تمثيل حركية الشخص الكفيف وهي ثلاث درجات (التأرجح ثم الاستناد ثم الوصول ) . والقراءة الأخرى في هذا الفصل عن الشاعر اليمني عبدالله البردوني وتحديداً في نهايات النص الشعري لديه،واشتغلت على الأنواع الشعرية لديه وبخاصة شعر مناجاة الذات والزمن وفي عدة مجموعات أصدرها الشاعر وربطت القراءة بين تنامي التجربة البردونية مع تزايد النهايات المفتوحة في المجموعات المتأخرة بعكس النهايات المغلقة المرتبطة بالشعر الديني والوطني والحكمي في بداياته الشعرية •