نظرات في الشعر والفن.
لئن كان الأدب معدوداً ضمن دائرة الفنون السبعة التي رسمها الفرنسي (إيتيان سوريو1979م Etienne Souriau), فإن الشعر الذي هو ركن من أركان الأدب داخل ضمن هذا النسق، ومندرج تحت ذلك النسيج, وقد وضع (إيتيان سوريو) لكل فن قُطْراً، وكان مما اشتملت عليه دائرته تلك، التقاء الأدب – وفيه الشعر - بــ (السينما), والنحت, والرسم, والرقص, والموسيقا, والضوء.(1) إن المتأملُ في تلك التفرّعات يجد أنها قد تتداخل في خدمة بعضها، كالأدب, والسينما, والعمارة والزخرفة، والنحت والرسم، والشعر والموسيقا، والرقص والضوء، وبوسعنا أن نطلق على هذه الطريقة (تداخل الفنون الجميلة)، ومن يطالع كتاب (في تاريخ الفنون الجميلة) على سبيل المثال (2) سيجد فيه كمًّا هائلاً من الأدباء والنقاد الذين تحدثوا فنيّاً من منظورهم الأدبي, وحاولوا عقد علاقة بين الأدب والفن, وهو ما يشير إلى التقاء الشعر الذي هو أحد أركان الأدب بغيره من الفنون المختلفة. ومن خلال الأدب تحدّث (إيتيان سوريو) في دائرته تلك عن العلاقة بين اللوحة والقصيدة، كما أشار إلى تفاعل الشعر مع بعض الفنون الأخرى, (3) ويظهر هذا الاهتمام في العصر الحديث، إذ انبعثت العناية بتلك العلاقة بين الشعر والفن من خلال تلك الأفكار، والأطروحات التي يقدمها النقاد، وبخاصة من المنظور الجمالي، غير أن تلك العلاقة بين الشعر والفن تحديداً ليست ناشئة، أو طارئة، أو هي وليدة الصدفة، فقد رأينا إرهاصات تلك العلاقة وبوادرها منذ القديم فيما يطرحه فلاسفة اليونان، ونقاد العرب. وقديماً توقف الفيلسوف اليوناني (أفلاطون 347 ق.م) عند علاقة الشعر بالفن، حيث أشار إلى أن «الشاعر نفسه يسكب ألواناً بكلماته وعباراته على كل الفنون، ولكن من دون أن يفهم محاكاتها، وهكذا يرى الآخرون مثل هذا من خلال تلك الكلمات، فيدفعهم السحر الكامن في الوزن، والإيقاع، والموسيقى، إلى افتراضٍ بأنه قد حدّثهم حديثاً عظيماً عن صناعة الأحذية، أو القيادة الحربية، أو أي شيءٍ آخر». (4) كما ألمح تلميذه أرسطو (322 ق.م) إلى تلك العلاقة بين الشعر والفن، ويبدو ذلك الإلماح من خلال عنوان كتابه الذي وسمه بـ (فن الشعر)، حيث تحدث فيه عن نقد الشعر، وأشار إلى بعض الفروق التي تكون بين الشعر والفنون الأخرى، كالرسم، والتصوير، والرقص، والموسيقا، ونحوها، (5) وفي هذا دليل على قِدم تلك العلاقة التي تجمع الشعر بالفنون بشكل عام. وكذلك لم يبتعد أكثر النقاد العرب قديماً عن ربط الشعر بالفن، فابن سلام الجمحي (231ه) عندما أراد تعريف الشعر ربطه بمنطلقات فنية مهارية، فراح يعقد بينه وبين الصناعة التي تقوم في أكثر أحوالها على الفن، يقول مثلاً: «وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات، منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان، من ذلك اللؤلؤ، والياقوت، لا يُعرف بصفة، ولا وزن، دون المعاينة ممن يبصره، ومن ذلك الجهبذة بالدينار، والدرهم، لا يُعرف جودتهما بلون، ولا مس، ولا طراز، ولا حس، ولا صفة..» (6). وعندما تحدث الجاحظ (255ه) عن قيمة اللفظ والمعنى عرّف الشعر تعريفاً جماليّاً ذا أثر فني، فجعله صناعة، ونسجاً، وتصويراً، وهي منطلقات فنية ذات ارتباط وثيق بالفن، ولا سيما التصوير، يقول الجاحظ في عبارته الشهيرة: «والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي، والعربي، والبدوي، والقروي، والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير» (7). فالجاحظ في هذه العبارة يقيم شأناً للوزن بوصفه مظهرًا جماليًّا صوتيًّا، كما أنه جعل من الشعر حرفة لا يتقنها إلا أربابها، وأضاف إلى ذلك بأن جعله نوعاً من النسج الذي هو فنّ أيضاً، أو مهارة في حد ذاتها تقوم على البراعة والإتقان، وختم عبارته في التأكيد على تلك العلاقة، حينما جعل الشعر شكلاً من التصوير الذي هو فن أيضاً قائم على التخييل، والمجاز، والاستعارة، والتشبيه، والكناية، وحتى الذين جاءوا بعد الجاحظ، عندما أرادوا تعريف الشعر سحبوه إلى بساط الفن، كما فعل قدامة بن جعفر (337ه) مثلاً الذي حدّ الشعر في كتابه (نقد الشعر) بأنه «قولٌ موزونٌ مقفّى يدلّ على معنى» (8). وكذا فعل ابن رشيق القيرواني (456ه) في كتابه (العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، غير أنه كان أكثر عمقاً وتوسعاً، فأشار إلى تلك العلاقة من منظور فلسفي مقارن، يقول: «وإذا كانت اللحون عند الفلاسفة أعظم أركان العمل الذي هو أحد قسمي الفلسفة وجدنا الشعر أقدم من لحنه لا محالة، فكان أعظم من الذي هو أعظم أركان الفلسفة، والفلسفة عندهم علم وعمل» (9). وقال ابن رشيق في هذا الصدد أيضاً، مبيناً أثر العلاقة بين الشعر والموسيقا: «وزعم صاحب الموسيقى أن ألذ الملاذ كلها اللحن، ونحن نعلم أن الأوزان قواعد الألحان، والأشعار معايير الأوتار لا محالة، مع أن صنعة صاحب الألحان واضعة من قدره، مستخدمة له، نازلة به، مسقطة لمروءته، ورتبة الشاعر لا مهانة فيها عليه، بل تكسبه مهابة العلم، وتكسوه جلالة الحكمة» (10). ويربط النقاد الفلاسفة من العرب الشعر برباط فني أيضاً، وقد لوحظ ذلك الربط لدى الفارابي (339ه)، وابن سينا (427ه)، وأبي حازم القرطاجني (684ه)، وغيرهم، فهم يشيرون إلى ما بين الشعر والفن من التقاء وتفاعل، فيتحدثون عن التخييل، والإيقاع، والتصوير، ونحوها، بل رأينا الفلاسفة الغربيين فيما بعد يصرّون على هذا التواشج، ويمكن أن نأخذ مثالاً على ذلك التصور ما فعله الفيلسوف الألماني (هيغل 1831م) في كتابه الذي عنونه بــ (فن الشعر)، وتحدث في تضاعيفه أيضاً عن علاقة الشعر بالإيقاع (11). وفي العصر الحديث خصّ الأديب المصري مصطفى صادق الرافعي (1924م) الشعر بهذه الفنية، وذلك في كتابه (فن الشعر)، بل وصف الشعر في كتابه هذا بأنه: «فن النفس الكبيرة الحساسة الملهمة» (12)، كما نوّه معاصره المصري مصطفى لطفي المنفلوطي (1937م) إلى (فنيّة) الشعر، وذلك عندما ربط الشعر بالفنون الجميلة، يقول في كتابه (النظرات): «فإن رأيت من تؤمل في إصلاحه خيراً، وتجد في نفسه استعداداً لتقويم ذوقه، فعلاجه أن تحفه بأنواع الجمال، وتدأب على تنبيهه إلى متناسباته، ومؤتلفاته، وإن استطعت أن تعلّمه فناً من الفنون الجميلة كالشعر، والتصوير، والموسيقى، فافعل؛ فإنها المقومات للأذواق، والغارسات في النفوس ملكات الجمال» (13). وفي عصرنا هذا نجد هناك بعض الدراسات التي تحدثت عن التحاقل بين الشعر والتشكيل البصري مثلاً، ويمكن أن نعرف ذلك – مثلاً - من خلال دراسة د. محمد الصفراني التي عنونها ب: (التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث 1950-2004م, بحث في المحاقلة بين الشعر والفنون) (14), فهذا الكتاب من المراجع الأحدث التي توقفت عند علاقة الشعر بالفنون. ومثلما نجد أجناساً أو تجارب شعرية كانت نشأتها في ارتباط وثيق بالإيقاع والموسيقا, فإن ضروباً من الإبداع النغمي كانت تعتمد باستمرارٍ على الشعر» (15)؛ ولهذا يمكن القول: إن الشعر من الأجناس الأدبية التي تتسم بصفاءٍ، وانفتاح، في تعاطفها مع الفنون الجميلة, ولعل في كتاب (الشعر بين الفنون الجميلة) السالف ذكره آنفاً (16)،ما يعزز هذا الزعم. هوامش... (1) ينظر تفصيل تلك الدائرة مثلاً في: نعيم حسن اليافي، الشعر بين الفنون الجميلة, (د.ط, دار الكاتب العربي للطباعة والنشر, د.ت), ص71. (2) ينظر: سمير غريب، في تاريخ الفنون الجميلة, (ط/1, دار الشروق, القاهرة, 1419هـ/1998م). (3) ينظر مثلاً: إيتيان سوريو، الجمالية عبر العصور, ترجمة: د. ميشال عاصي, (ط/2, منشورات عويدات, بيروت, باريس, 1982م), ص20 – 22. (4) Darnell Rucker, “Plato and The poets”, The Journal of Aesthetics and Art criticism, Vol. 25, No. 2, .(Winter 1966) :170 (5) ينظر: كتاب أرسطو فن الشعر، ترجمة وتقديم وتعليق: إبراهيم حمادة، د.ط، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، د.ت، ص67. (6) طبقات الشعراء، محمد بن سلام الجمحي، تمهيد: جوزف هل، ودراسة: طه أحمد إبراهيم، د.ط، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 1422هـ/2001م، ص26. (7) الحيوان، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، ط/2، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، القاهرة، 1385هـ/1965م، ج/3، ص131 – 132. (8) نقد الشعر، أبو الفرج قدامة بن جعفر، تحقيق وتعليق: محمد عبد المنعم خفاجي، د.ط، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، د.ت، ص64. (9) العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، ط/2، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، 1374ه/1955م، ج/1، ص26. (10) العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني، ص26. (11) ينظر: فن الشعر، هيغل، ترجمة: جورج طرابيشي، ط/1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1965م، ص80. (12) من روائع الرافعي، فن الشعر، ملكة الإنشاء، ط/1، دار ابن حزم، بيروت – لبنان، 1436هـ/2015م، ص88. (13) النظرات، مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة الموضوعة، د.ط، دار الجيل، بيروت – لبنان، 1404هـ/1984م، ص164. (14) ينظر: محمد الصفراني، التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث (1950-2004 م), بحث في المحاقلة بين الشعر والفنون، (ط/1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت – لبنان, 2019م). (15) دليل الدراسات البينية العربية في اللغة والأدب والإنسانيات, د. نور الدين أحمد بنخود, (ط/1, سلسلة دراسات بينية, مركز دراسات اللغة العربية وآدابها, جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية, مطابع الجامعة, الرياض - المملكة العربية السعودية, 1436ه)، ص49. (16) ينظر: الشعر بين الفنون الجميلة, د. نعيم حسن اليافي.