الإبل في المعتقدات الأسطورية العربية بين التفاؤل والتشاؤم.

عَمرت الإبل الأرض قبل خلق الإنسان بحوالي الخمسين مليون سنة وازدهرت ازدهارا هائلا في عهد الإيوسين المعروف باسم فجر الحياة الحديثة‏.‏ والجمل العربي الذي يعيش في المناطق الصحراوية الجافة القاحلة الشديدة الحرارة في نهار الصيف‏,‏ والشديدة البرودة في ليل الشتاء قد تم استئناسه من قبل أربعة آلاف إلي خمسة آلاف سنة في شبه الجزيرة العربية من مجموعة برية كانت تعيش فوق هضاب حضرموت‏.وقد ثبت للدارسين والمراقبين أن الجمل العربي هو بحق سفينة الصحراء وأنه أصلح الوسائل الفطرية للسفر والحمل والتفضل في الأراضي الصحراوية الجافة فهو يستطيع قطع مسافة تصل إلي الخمسين ميلا في اليوم متحملا الجوع والعطش لعدة أيام متتالية في شدة حرارة نهار صيف الصحراء‏,‏ ويستطيع حمل أكثر من نصف طن من المؤن والركاب والسير بهم وبها لأكثر من عشرين ميلا في اليوم دون طعام أو شراب لعدة أيام متتالية‏‏,‏ وذلك لما خص الله‏‏ تعالي‏ به هذا الحيوان من ميزات جسدية‏,‏ وتشريحية‏,‏ ووظائفية لا تتوافر لغيره من الحيوانات‏,‏ ومن الجزيرة العربية انتشرت الجمال العربية إلي كل من إفريقيا وآسيا وجنوب أوروبا عبر الوجود الإسلامي في تلك البلاد خاصة في شبه الجزيرة الأيبيرية ‏(‏بلاد الأندلس). بهذا القدم نشأت بين العربي والإبل (ناقه وجمل) علاقة ود حميمة، فهي رفيق مفيد ومطواع للسفر والترحال، يطربها الحداء ويرسم على تواقيعها الوزنية واللحنية الخطوات، كما أنها رمز إلى ديمومة الحركة والعمل واستمرارية الحياة في وسط بيئة قاحلة وجافة لا ترحم أحداً، كما أنها قوة اقتصادية عملاقه في مواجهة الجدب والجوع، ورفيق الدروب الصعبة، ومشوار الحياة القاسية، وكانت الأنيس والجليس، ومصدر الرزق، ووسيلة المواصلات، وعتاد الحرب لذا نسج العرب الأوائل العديد من الروابط بينه وبين الإبل امتدادا لجذور أسطورية وصلت في بعض الأحيان إلى حد التقديس لدرجة أنهم كانوا يتصورون السماء ناقة. وسموا يالناقة والجمل كثيراً من النجوم (الفتيق) وهو الجمل العظيم، وقالوا عن النجم سهيل (نجم عملاق يظهر بلون أبيض لؤلؤي متلألئ وحيدا في الأفق كألمع النجوم التي تظهر في منطقة الخليج العربي في نهاية شهر أغسطس من كل عام) إذا وقعت عينُ الجمل عليه مات من ساعته. والإبل لها تاريخ سحيق عند العرب، فناقة صالح (ناقة الله لثمود: اشترط قوم صالح عليه أن يقدم لهم آية، عبارة عن ناقة عشراء تتمخض من صخرة، فاستجاب الله لهم وكانت ترد يوماً وهم يردون في يوم آخر، ثم أنهم عقروها فكان هذا سبب وقوع العذاب عليهم) كما ذكرها الطبري في تاريخه ولدت من بطن صخرة ارتجفت وظهر في جانبيها نتوء كبير، ظل يدور، ثم تمخضت الصخرة كما تتمخض المرأة، فوضعت الناقة. ويصفها الرواة بالعظمة، فالناقة كانت عنصراً مقدساً، يدفعهم إلى هذا التقديس شعور بالتشاؤم منها في ملاحم الغناء التي تقترن بها، بعد الصيحة التي أخذتهم إثر ناقة صالح. والحرب التي قامت بسبب ناقة البسوس (البسوس امرأة استجارت بجساس بن مرة، حين رأى ناقتها كليب بن ربيعة ترعى في حِماه فقتل فصيلها، فقلته جساس فثارت الحرب بسببها بين قبيلتي بكر وتغلب لأربعين عاماً). ومن المزاعم الأسطورية الغريبة مع ما رأينا من تقدير العرب للإبل أنهم قدروا أن الإبل تولع بأكل عظامهم إذا ماتوا (لا يوجد حيوان يأكل عظام الموتى من البشر) فكانوا يثأرون لأنفسهم منها في حياتهم، فأفرطوا في نحرها وعقرها، وربطوا ذلك بالمياسرة (ضرب القداح: وهي أعواد تسوى وتوضع عليها علامات الكسب والخسارة في القمار) بها، كأن نحرهم لها في حياتهم إنقاذاً لأنفسهم منها بعد مماتهم، لذلك جعلوا من الناقة ما يشبه السفينة في الملاحم الكونية القديمة، تحملهم إلى العالم الآخر، وهو ما ارتبط بمفهوم البلية ( ناقة تعقل إلى جانب القبر حتى يدركها الموت، فإذا نهض الميت من قبره وجدها قريبة منه امتطاها عابراً عليها إلى العالم الآخر) التي كانوا يربطونها عند قبر الميت ساعة دفنه. ومن المزاعم الاسطورية العربية كي الإبل السليمة بزعم شفاء المريضة، حيث كان العرب إذا وقع مرض العر(مرض يشبه الجرب يصيب الإبل) عمدت إلي جمل سليم فكوته وتركت الإبل المريضة دون كي زاعمة شفائها بهذا العمل. كما كان لأرقام بعينها عند العرب الجاهليين دلالة تشاؤمية وارتباطيه بالإبل، فكانت العرب إذا بلغ ابل الواحد منهم عدد معيناً همّ إلي التنكيل بواحد منها ويمثل به ويشوه فمثلا عندما تبلغ مائه يعمد إلي البعير المتمم للمائة فينزع سناس فقرته ويعقر سنامه لئلا يركب ولا ينتفع بظهره ويسمي المُعَنيَّ، في لسان العرب إن (هند) و(هنيدة) اسم للدلالة علي المائة من الإبل عند العرب، وإذا بلغت ألفاً فقأ عين بعير منها وسرحه حتى لا ينتفع به فإذا تمت ألفين أعماه وفي ذلك يقول الفرزدق: غلبتك بالمُفَقئ والمُعَمى وبيت المحتبي والخافقات كما عرف العرب الجاهليون، شعائر النوق والجمال السائبة، تلك التي تترك لترعى حرة في حمى الأرض الحرام، مثل حرم مكة وحمى الطائف ومنافعها للآلهة دون غيرهم. فاعتادوا إذا ولدت الناقة خمسة بطون آخرها ذكر، أن يشقوا أذنها ويخلوا سبيلها سائبة لأصنام مكة فلا تركب ولا تحلب، وتصبح مشاعًا سائبا، بمعنى أن لا يصح ولا يحل المساس بها من جانب الأحياء، فكانت تنذر للآلهة والأرض المقدسة أو المحرمة فيما حول مكة ونجد والطائف، تُنسب هذه الطقوس الشهيرة لعمرو بن لحي بن قمعة الخزاعي (أمير مكة في عصر قبيلة خزاعة) الذي أحل النظرة الوثنية ذات البعد الأسطوري محل النظرة الدينية الموحدة التي كانت الناقة فيها حجة الله على ثمود إذ هو أول من بحر البحيرة (البحيرة عند العرب هي التي يشق أذنها فلا تركب ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا الضيف أو تهمل للإلهه)، ووصل الوصيلة، وسيّب السائبة، وحمى الحامي، وغيّر دين إسماعيل عليه السلام، ودعا العرب إلى عبادة الأصنام والأوثان. وقديما أقسم العربي بناقته فقال: «إذا شفيت فناقتي سائبة» والقسم دليل على قدسية المقسم به، ومن المعطيات الأسطورية للجمل أن بعض القبائل العربية كانت تصطحبه في الحروب تيمنا به مثلما صنعت تميم، ومثل هذا يقال عن ناقة الملك الغساني يزيد بن عمرو إذ كانت محماة وفي عنقها مدية وزناد وصرة ملح، وقد كان يمتحن بها رعيته لينظر من يجترئ عليه وقد دفع الحارث بن ظالم حياته ثمنا لنحره هذه الناقة، أما ناقة أبي دؤاد الإيادى (الزباء) فكانت في نظر الإياديين ناقة ميمونة يرسلونها فحيث توجهت يتبعونها ، وكذلك كانوا يفعلون إذا أرادوا نجعة (طَلَب العُشْب ومَسَاقط المَطر). ولكي تستقيم الصورة الأسطورية المتعلقة بالإبل، كان لابد من تعزيزها بربط الإبل بالقوى الخفية من الجن والشياطين، بوصف هذه القوى قاسمًا مشتركًا في كل الكائنات التي تخلفها الأفكار الأسطورية  وذلك ما رواه الجاحظ في كتابه الحيوان حين قال: «زعم البعض أن في الإبل عرقا من سفاد الجن وذهبوا إلى الحديث أنهم إنما كرهوا الصلاة في أعطان الإبل، لأنها خلقت من أعراق الشياطين وكذلك ما زعموه بشأن (الإبل المتوحشة) من أنها التي ضربت فيها إبل الجن، وأن من نسل الجن الإبل الحوشية». كما ارتبطت بالإبل بعض المعتقدات الشعبية ذات الملامح الأسطورية مما كان يقع في باب التطبيب العربي القديم، فكان يحرق وبر الإبل ويذر على الدم السائل للاعتقاد بأن ذلك يعمل على إيقافه ، وكانت المرأة تتحمل بمخ ساق الجمل لظنها أن ذلك يقضي على العقم ، وكان السكران يشرب بول الجمل طلبا للشفاء من ورم الكبد، وكانت تُربط قرادة الجمل في كم العاشق أملاً في زوال عشقه وإذا طالت علة المريض وظنوا أن به مسًا من الجن عملوا له جمالا من طين وجعلوا فيها جوالق وملؤوها حنطة وشعيرًا وتمرًا، وجعلوا تلك الجمال إلى جهة الغرب وقت غروب الشمس، وباتوا ليلتهم فإذا أقبل الصباح نظروا إلى جمال الطين، فإذا رأوا أنها على حالها قالوا: لم تُقبل الهدية فزادوا فيها، وإذا رأوها تساقطت قالوا: قُبلت الهدية، واستدلوا بذلك على شفاء المريض. *عضو اتحاد كتاب مصر