سفيان.. الحافظ *

ربَيٍنا معًا.. كنت أكبره بسنَةٍ وقليلاً. لا أذكر بالطَّبع تلك السَّنة.. ولكنَّها هي الوحيدة الخاوية منه، في مسيرةٍ استمرَّت طويلاً، كنَّا فيها لم نبتعد على قربٍ إلاَّ في فترة دراسته في فرنسا لبضع سنوات. وفي المرحلة الابتدائيَّة كنَّا في مدرستين مختلفتين حيث آثر والده، الذي كان مدرِّسًا في تلك المرسة لمرحلةٍ من حياته، أن يكون فيها.  اجتمعنا في نفس المدرستين في المرحلتين المتوسِّطة والثَّانويَّة، وإذ كنت أسبقه بسنةٍ فقد بقيت لعامٍ دونه معي في كلِّ مدرسة. كان متفوِّقًا بامتيازٍ في دراسته، وكان التفوُّق قرينه لدرجة أنَّ الحرص عليه جعل والده يدرِّسه في إجازة الصَّيف دروس المرحلة التَّالية. وكان يبقى في قاعة الامتحانات إلى نهاية مدَّة الامتحان رغم اكتمال إجاباته وتأكُّده من صحَّتها، من باب الاحتياط. وحين أكمل الثانويَّة ببالغ الامتياز، أهَّله مجموعه ليدخل كليَّة الطب في جامعة الملك سعود، وكان بذكائه وقدرته متمكِّنا دون شكٍّ من اجتيازها. أيضًا كنت الأسبق بسنة، وحين جاء إلى الرياض سكن معي في “عزبة” ببيتٍ شعبي خلف مقبرة شارع الوزير، إذ لم يكن السَّكن الجامعي متوفِّرًا وقتها. وتحمَّلنا بقبول شظف البيت، وعناء طرقات الحارة التي كانت تصبح مسيالاً في موسم الأمطار. وكان هو الأقدر على التواؤم مع الظُّروف والاستحمام بالماء البارد في عزَّ الشِّتاء. آثرنا الاستقلال في المأكل عن بقية الشُّركاء في “العزبة” وكنَّا نتشارك وجبةً واحدةً على الأقل، وفي نهاية الأسبوع كان يقضي يومًا عند أخته التي انتقلت إلى الرياض، وجاء معها ما غيَّر حياته. بقينا هناك عامًا ثم انتقلنا الى السَّكن الجامعي في عمائر الرَّاجحي بالبطحاء وكانت تلك نقلةً نوعيَّةً عمَّا قبل. كان في غرفةٍ في دورٍ أعلى مع زميله الحائلي ثابت السَّبتي الذي كان رجلاً بكلِّ ما تعنيه الكلمة، وسبق إلى رضوان الله بعد سنواتٍ قليلة من تخرُّجه من الجامعة، في حادث سيرٍ مؤسف. وصادف انتقالنا إلى السَّكن الجديد تحوُّلاً محوريًّا في حياته، حيث شاءت الظُّروف أن يختار من أرادها رفيقة عمر، ولأجلها آثر ترك كلية الطب وانتقل الى قسم العلوم السِّياسيَّة في كلِّيَّة العلوم الإداريَّة، إذ أنَّ سنوات دراسة الطبِّ الطويلة ربَّما لم تمكِّن رفيقته فيما بدا، من انتظارها. كانت كلِّيَّة الطَّبِّ وقتها الوحيدة من كليَّات الجامعة، التي تتبع النِّظام السَّنوي لا الفصلي. ولهذا فقد قضى بقيَّة العام دون دراسةٍ ليتفرَّغ ليقرأ كلَّ ما وقعت عليه يداه، ومنها كتبي. وأذكر أنّه رافقني مرَّةً إلى مقهىً شعبيٍّ عند حدود الرِّياض مع زملائي من قسم العمارة، وفي حديثٍ دراسيٍّ جاء موضوعٌ عن أحد روَّاد العمارة العالميَّة ونهجه، وفوجئنا بأنَّه عرف عن “فرانك لويد رايت” قدر ما نعرف، أو أكثر. ولم يكن ذلك عارضًا عابرًا، فقد تعلَّم من والده علَّامة المدينة المنوَّرة وقاضيها وأديبها الكثير في حلِّه وترحاله، فعني بالأنساب والأدب، وورث عن والده قوَّة الحافظة والكرم وعزَّة النفس وعون المحتاجين. ولا أبالغ إن قلت إنِّي أحسب أنَّه قرأ أهم كتب التفسير والحديث، والدِّراسات عن الفرَق، وأمَّهات التراث العربي، وكانت لديه قدرةٌ على التَّحليل وربط المعلومات بشكلٍ عجيب. أكمل دراسته في قسم العلوم السياسيَّة في فترةٍ قياسيَّة. واختير معيدًا بالكليَّة ثم غادر إلى فرنسا لسنواتٍ حيث حصل على الماجستير من معهد الدِّراسات السِّياسيَّة في آكس أون بروفانس بفرنسا. وبعد عودته عمل لفترة محاضرًا في الجامعة ثم انتقل للعمل في الأمانة العامَّة لمجلس التَّعاون لدول الخليج العربيَّة حتى تقاعده. وكنت أشاهد مثابرته وجدَّه الذي يكاد يقوم بأعباء فريق، منغمسًا لليالٍ في لجان الإعداد والصِّياغة للمؤتمرات بأنواعها. واختار بعد تقاعده السُّكون في رضى وقناعة، وشاء الله أن يبتليه بعارضين صحيَّين خطيرين، جابههما بعميق الإيمان وجميل الرِّضا. وكان الله الذي شاء هو الذي عافى، فتعافى من كلِّ الأعراض الأقسى، وعاد إلى حياته الطبيعيَّة أو كاد. كان خفيف الظلِّ، لمَّاح الرؤية، سريع البديهة، في عمله وعلمه وحياته الشخصيَّة، كما جريئًا حدَّ ما يبلغ التهوُّر ولكن في حكمةٍ وأناة، وشجاعًا لا يخاف السَّير في الظلمة في مجاهل وادي العقيق حيث كانت دار أبيه المطلَّة عليه، ولا يخشى تجربة البنادق بأنواعها والتي تأثَّر مرة بإحدى رصاصاتها. وكان يعطي ما لديه دون منٍّ، متغافلاً عن استغلالٍ من البعض لذلك الجانب منه. وأذكر أنَّ وجبته الدَّسمة التي كانت تعدِّها أخته له ليحملها إلى المدرسة المتوسِّطة، لم تنته في جوفه أبدًا، إذ كن يؤثر بها آخرين، وخاصَّةً ذلك البائس العفيف النَّفس عبيد الله. وأظنُّ أن قدرته الفائقة على التسامح بطيب قلب هي أبرز سماته. لم يكن غبيًّا ولكن متغابيًا بإرادته ورضاه من أجل ما هو خير. ورغم التَّرف النسبيِّ الذي عاشه، خاصَّة في صباه، فقد كان صادق التواضع حسن الألفة يحنو بلا تكلُّف، ولا ينبئ عن ذلك إلا سرعة عاطفته وجياشة دمعته. وحتى حتى في انفعالاته النادرة كان يعود للانكفاء على نفسه معتذرًا حتى لو لم يخطئ. تمتَّع بابتسامةٍ ذات طابعٍ خاصٍ، استعان بها على الدُّنيا التي قست عليه أحيانًا، وعلى من غدروا به. يتبع في تؤدةٍ قلبه، لا يكره ولا يعتب ولا يأسف على ما فات. وحين مازحته يومًا بأنَّه فيما أسرف، سلوى لكلِّ عاشقٍ لم يلق من يحب، منحني تلك الابتسامة وأخواتها. وممَّا منَّ الله به عليه أنه كان بارًّا بوالديه ومازال عند ذكرهما شجيَّ الحزن حتى بعد زمنٍ طويلٍ من رحيلهما. وامتدَّ ذلك البر إلى عامَّة أهله وأصدقائه، وابتدع طقسًا جميلاً تمثَّل في اتِّخاذه يوم الجمعة مناسبة لاتصالٍ بكلِّ من أحب: “ما أبغى أطوِّل عليك.. جمعة مباركة”. كان معي وكنت معه.. ودٌّ متجذِّر يتجاوز أي خلافٍ عابر. وكان لسبقه معينًا على أشياءٍ كثيرة، فهو من علَّمنى السِّواقة، وأعانني على الحصول على رخصتها، ودفع بي بجرأته إلى ما لم أكن لأفعله دونها، ونبَّهني إلى كتبٍ نادرةٍ واستنتاجاتٍ بديعة. وما حزبني أمرٌ وعرفه إلاَّ كان معينًا على تجاوزه برأيٍ أو تربيتةٍ مقويَّة، فقد كان يعرفني كنفسي أو أكثر. وحين يشعر برغبةٍ أو أملٍ مهما صغر، يسعى إلى تحقيقه. ذكرت له مرَّةً أن نفسي في وجبة “مقادم” زي زمان. ولا أظنني كنت جادًّا جدَّا، إلا أنني ما أن أكملت كلماتي إلَّا وهو يدفعني إلى سيارته لنذهب لـ “الحلَّة” لنستمتع بوجبةٍ أصبحت طقسًا سنويَّا. طوال حياتنا، لم يخف عنِّي شيئًا ولم أخفِ عنه شيئًا إلاَّ مرَّةً واحدة. لاحظت صباح يوم الجمعة (28 ربيع الأول) اتصالاً في فجرها من ابنه، وفزعت إلى الكذب بآمالي. كنت أعلم أن شيئًا كارثيَّا قد حصل، وافترضت كلَّ شيء إلاَّ أن.. وتتابَعت الأخبار لتستكمل مجموعة الأحزان التي أحاطت بي هذا العام بفقدٍ كبير مريعٍ آخر. كان نقل جثمانه إلى المدينة المنوَّرة حيث وُلد وحيث أحبَّ، أوَّل الأوليَّات، ومع السَّعي إلاَّ أن بعض أبنائه رأوا في الرِّياض مستودعًا كما كانت مستقرًّا، وأحسب أن كلَّ أرض كان يسرُّها أن تؤويه. وصلِّي عليه بعد صلاة الجمعة ثم صلِّي عليه مرَّةً أخرى بعد صلاة العصر، وورى الثرى ومعه بعضي الذي لا أنكر. في الجمعة التَّالية، وفي هدأةٍ خاليةً من اتِّصاله المعهود فاجأني اتصالٌ من ابنه الأكبر عبد الله.. متابعًا خطى والده: جمعة مباركة كيف حالك يا عمي.. .. لا أدري.. سفيان وحده، يعلم كيف حالي بعده. .... * مالا يفي من دمعٍ، على أخي الحبيب سفيان بن محمد الحافظ، حتى ألقاه.