الرائحة ترتقي من كونها حاسة، ترتبط بإدراكنا لما حولنا إلى أن تصبح رسولاً صادقًا يمتاز باللطف والانسيابية التي تتسل إلى الروح، وربما لهذا اشتق للرائحة حروفا من كلمة الروح نفسها! ولا يخفى على أحد أن الجوانب المرئية هي تلك التي يتم التركيز عليها في تصميم المدن والأحياء والبيئات المبنية، ويشمل ذلك أشكال الكتل والفراغات من حولها. ولكن ماذا عن الجوانب المتعلقة بالرائحة؟ لماذا يتم التقليل من شأن حاسة الشم بالمقارنة مع حاسة البصر؟ سلطت دراسة بحثية قيّمة الضوء على دور الرائحة في تعزيز هوية المدينة للباحثة مهى قمر الدين والمنشورة في مبادرة المنور بعنوان (روائح المدن وأهميتها الثقافية: المملكة العربية السعودية نموذجًا). من الممارسات العالمية اللافتة التي أوردتها الدراسة في توظيف الرائحة أن اليابان هي أول دولة اتخذت موقفا متقدما تجاه حاسة الشم وعلاقتها بالمكان. حيث أعلنت الدولة عن مشروع باسم “مائة موقع من الروائح الطيبة”، تم حمايتها وإضافة ختم وقد كُتب عليه “الروائح التي سيتم نقلها للأجيال القادمة”. تضمن هذا المشروع مواقع طبيعية وثقافية من بينها الينابيع الساخنة الكبريتية وحدائق أزهار الخزامى ونبات الويستريا والروائح المنبعثة من المكتبات القديمة ورائحة الصمغ المميزة حول منازل الحرفيين في مدينة كورياما. ومن التجارب الملهمة في هولندا حيث ازداد انتشار أشجار الحمضيات في الأماكن والساحات العامة بعد أن اكتشفت دراسة بحثية أن رائحة أشجار الحمضيات تحث الناس على الترتيب والنظافة. ذكرت الباحثة مهى أربعة مواقع أساسية لرسم مشهد الروائح في مدن المملكة: العود والبخور في جنبات المسجد الحرام، حقول الورد في الطائف، طريق البخور في العلا، أسواق التوابل المنتشرة في المملكة مثل أسواق عسير وسوق القيصرية وسوق البلد في جدة وأسواق مكة المكرمة وغيرها. وأعتقد أنه بإمكاننا تمييز المزيد من الروائح الفريدة لمدن المملكة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الورود والنباتات العطرية كالنعناع في المدينة المنورة، رائحة الخزامى والقهوة ورائحة حطب التدفئة ورائحة المطر بعد غياب في المنطقة الوسطى والشمالية. وروائح حرق الفلاحين في الأحساء لبقايا النخل والتي تنعش نفسية كل أحسائي “الطبينة”، ولا يمكن أن أنسى ارتباط المسك بمدينة دارين في شرق المملكة، ونسائم جبال جنوب المملكة المنعشة وروائح النباتات المحلية والورود والأبواب الخشبية العتيقة والتي تبدو بارزة ويمكن تمييزها بسهولة نظرا لصفاء الهواء لبعدها عن تلوث الهواء في المدن الكبرى. وبناءً على تجربتي في مجال التخطيط الحضري؛ فأعتقد أن حاسة الشم يتم التقليل من شأنها، ويتم تصورها على أنها منطقة إشكالية تستوجب منع انبعاثها بدلا من توظيفها في التصميم. فمثلا، عند تصميم أي فراغ معماري أو عمراني ينصبّ تركيز المصممين على أنظمة التهوية الميكانيكية لمنع الروائح الكريهة، بدلا من التفكير في توفير روائح جالبة للبهجة والانتعاش والحفاظ على الروائح التي يحبها الناس والاحتفال بها. وبطريقة مماثلة، تجادل فيكتوريا هينشو في كتابها Urban Smellscapes (2013) بأن الرائحة قد تم تجاهلها بشكل نقدي في كيفية تخطيط المساحات. وتزعُم أن المدينة قد استبدلت نفحات المدن المألوفة في العصور السابقة بالرغبة في جعل الأماكن محايدة، ولم تحترم قدرتنا على التأثر والتعاطف مع الرائحة الجميلة. ولكن لماذا نفشل في احتضان حاسة الشم في عملنا كمصممين ومخططين للمدن؟ تم تجاهل الرائحة من قبل المخططين الحضريين والعلماء على الرغم من حقيقة أن للروائح تأثيرا كبيرا على تصورنا للأماكن. وقد يكون هذا لأسباب ومن أهمها صعوبة تسجيلها وتحليلها، وربما يكون التحكم بطريقة انبعاث الرائحة وانتشارها أحد أسباب التقليل من قيمة هذه الحاسة. يقوم البشر بعملية الشهيق والزفير أكثر من ٢٠٠٠٠ مرة في اليوم، ومن الضروري أن يكون لدينا آلية تصفية تسمح لعقولنا بالابتعاد عن الروائح العالقة في الهواء، وإلا فإننا سنواجه موجات متداخلة من الروائح. “نعتاد على الروائح المألوفة مثل تلك الموجودة في منازلنا، ولذلك في كثير من الأحيان عندما يتغير شيء ما ندرك أن الرائحة كانت موجودة في المقام الأول. وعندما تكون الروائح قوية أو غير مألوفة أو توحي بالمتعة، فإننا نسجلها كأثر جانبي، ونستنتج خطأً أن الروائح غير مهمة. ومع ذلك، تلعب الروائح دورا مهما في ربطنا بالعالم من حولنا. - هينشو ، ف. (2014) إضافة إلى الجانب البيولوجي، هناك سوء فهم مفاهيمي لإشكالية الرائحة في المدن. تم تصوير المدن عبر التاريخ على أنها أماكن قذرة وكريهة الرائحة، حيث تخلق النفايات الحيوانية والبشرية والصناعية ضبابا من الروائح الكريهة. ونتيجة لذلك، تأثر مفهومنا عن حاسة الشم، مما خلق فكرة غير صحيحة مفادها أن هذه العناصر لا تقدم الكثير لتصميماتنا الحضرية، وهي أبعد ما تكون عن الحقيقة. تستكشف مؤرخة العلوم ديانا أكرمان موضوع الرائحة وقوتها في التاريخ الطبيعي للحواس، مع إعطاء تقدير كبير للتأثير النفسي والعاطفي والمعرفي لحاسة الشم: “الرائحة هي الأكثر مباشرة من بين جميع حواسنا. وإذا قمت بتدمير خلية عصبية في الدماغ، فإنها تنتهي إلى الأبد ولن تنمو مرة أخرى. فإذا قمت بإتلاف الخلايا العصبية في عينيك أو أذنيك، فسوف يتضرر كلا العضوين بشكل لا يمكن إصلاحه. ولكن الخلايا العصبية في الأنف يتم استبدالها كل ثلاثين يوما تقريبا، وعلى عكس أي خلايا عصبية أخرى في الجسم، فإنها تلتصق مباشرة وتلوح في تيار الهواء مثل شقائق النعمان على الشعاب المرجانية. يمكن أن تكون الرائحة حنينا إلى الماضي لأنها تثير صورا وعواطف قوية قبل أن يكون لدينا الوقت لتحريرها”. - أكرمان ، د. (1991) هذا الاتصال المباشر هو أيضا ما يجعل الرائحة قوية جدا، وفي الوقت نفسه، ما يعطي الرائحة إمكانيات هائلة لخلق المتعة في مدينة اليوم. في أوقات العولمة حيث يبدو أن كل شيء أصبح متجانسا، يمكن أن يساهم إدخال الروائح اللطيفة والمتنوعة في شخصية مدننا. رسم توضيحي يصور منظر رائحة مدينة إدينبورغ بواسطة كيت ماكلين. (2011) النقاط تمثل مصدر الرائحة والخطوط تعكس مدى الرائحة كما توزعها الرياح. الرائحة (البعد الرابع) تم توظيف الرائحة في مجالات أخرى لا تتعلق بالمدن المعاصرة. يعود استخدام الروائح جنبا إلى جنب مع الأفلام إلى عام 1906، أي حتى قبل إدخال الصوت. على سبيل المثال، أطلق نظام “Smell-O-Vision” رائحة أثناء عرض فيلم حتى يتمكن المشاهد من شم ما كان يحدث في الفيلم. وما هو أبعد من ذلك، عادت هذه الفكرة في المهرجانات السينمائية مثل Widescreen Weekend 2015 في برادفورد، والتي تعتمد على جلب تأثيرات مثل الرائحة والدخان والرياح إلى دور السينما في الولايات المتحدة. المنتج السينمائي الأمريكي مايك تود جونيور (يسار) يجلس في عام 1959 مع المخترع السويسري هانز لوب (يمين)، الذي يشير إلى آلة Smell-O-vision الخاصة به، والتي صنعت الروائح بالتزامن مع الحركة في فيلم Scent of Mystery وبالمثل، تستخدم متاجر مثل Nike وSony وAbercrombie & Fitch الروائح لتعزيز هوية العلامة التجارية، وإذا كنت قد مررت بمطعم Subway، فلا بد أنك قد اختبرت كيفية استخدام رائحة الخبز الطازج لجذب العملاء. حتى لو لم تكن جائعا، فإن هذه الرائحة مغرية. يمكن أن تكون استراتيجيات توظيف الرائحة في قطاعي الترفيه والتجزئة بمثابة مصدر إلهام لتخطيط المدن والعمارة كطرق لاحتضان الروائح البيئية. تلعب الأشكال والمواد دورا أساسيا في أجواء الرائحة، وإذا تم استخدام الرائحة بشكل استراتيجي مع العناصر الحسية الأخرى، فيمكن أن تساعد في خلق أجواء مفعمة المشي على عتبات الرائحة وكواحدة من التجارب الرائعة التي يمكن أن تساعدنا على أن نصبح أكثر وعيا بدور الرائحة في بيئتنا هي “المشي على عتبات الرائحة”، وهي نزهة تركز على اكتشاف وتقدير العطور في جميع أنحاء المدينة. بدأ هذا النوع من الأنشطة يحدث في أماكن مختلفة من العالم، مثل “روح فيينا” في النمسا إذا لم يكن هناك أي منها في مدينتك، فإليك دليل مجاني للفنانة والمصممة كيت ماكلين للقيام بذلك بنفسك! إن مجرد التفكير فيما يمكن أن تفعله الزهور أو رائحة تحميص القهوة أو نسائم هواء الجبل المنعشة وتوظيفها كعناصر إثارة لتجربتنا في تجول المدينة وزيادة قابليتنا للمشي. وبنفس الطريقة، يمكن لمجموعة متنوعة غنية من الروائح في المدينة المرتبطة بأشكال ومواد وأنشطة مختلفة أن تثري تجربتنا الحضرية وتحفز خيالنا الحسي. ويا له من شعور أن تصادف رائحة تؤدي إلى اتصال بمنزل العائلة القديم أو شخص عزيز أو فترة لها ذكريات مميزة، والتي تحمل قيمة كبيرة ليس فقط على المستوى الفردي، ولكن يمكن أن تعمل أيضا على تشكيل المساحات والتأثير على المجتمع على نطاق أوسع. وبدلا من محاولة خلق أجواء معقمة، يمكن استخدام الرائحة كعنصر قوي في التصميم من خلال بناء الذكريات والشخصية وتوفير الإحساس بالمكان وجعله صديقًا للإنسان. إن الرائحة بعد إنساني لا يمكن أن تكتمل إنسانية المدينة وهي تهمل رائحتها لأن ذلك يعني أنك تقول إن إنسان مدينتك لا يتنفس، وعلى المعماري الحاذق ان يعلم أن إنسان مدينته من حقه أن ينتشي فاتحا ذراعيه وهو يستنشق بعمق رائحة عطرية طبيعية تنبعث من بيئته لتتسلل إلى روحه لتعلن عناق الروح والعمران.. هناك حيث تكتمل المدينة ويكتمل الإنسان! * باحث دكتوراه وخبير في تخطيط وتسويق المدن وصناعة الأمكنة الشاملة والمستدامة والصديقة للانسان - (معهد الإسكان والدراسات الحضرية)- جامعة إيرسموس روتردام - هولندا يملك عبدالرحمن خبرة أكثر من ١١ سنة في مجال البحث والتعليم والممارسة وتقديم المشورة في مجال التخطيط الحضري والاقليمي الشمولي والمستدام. وهو متخصص في استدامة وأنسنة البيئة المبنية، والسياسات والتشريعات الحضرية الشاملة، وقضايا المشاركة المجتمعية. قام بتقديم استشارات لبرنامج الأمم المتحدة UN-Habitat ومجموعة البنك الدولي لتطوير وتطبيق الأساليب التشاركية الحضرية المتعلقة ببرنامج مستقبل المدن السعودية. كما حصل على عدد من الأوسمة والجوائز من مؤتمرات محلية ودولية ومن أهمها جائزة أفضل ورقة علمية في مؤتمر المنظمة الدولية لتسويق المدن- فرنسا ٢٠٢٢.