أضع المرايا لأجدني كلما ضعتُ.
تسير الحياة باستقامة واحدة نحو مكان وجدت نفسك فيه أو خلقته بحثا عنها. تعتاد السكينة والخلوة التي كنت تظن أن الزمن كان شحيحًا بها. أنت تمضي وكل شيء يمضي من خلفك ولحظة واحدة تأتي وتعيد تكوينك بطريقة لا تعرف فيها نفسك. كنت أعرفني بشكل مفرط في تعمقه، بصورة متزنة بين الكتاب والليل الطويل. وأدركت أني أجهلني حين دخلت أمام وجوه مسبلة ومدهوشة بفعل الغرابة ووجهي الممسوح لونه. أمامي عشرون طالبًا ووحدي أجابه أعينهم المفتوحة بكل أشرعتها نحوي. أستغرب المكان وأنا كائنٌ معتد بكل جدار سكنه. أبحث عن الألفة في المكان، في الوجوه، وحتى في الجدار الذي وضعت فيه مرايا كبيرة لأجدني كلما ضعت. حين تسألني معلمة عما فعلته طوال السنين الماضية أجيب: أقرأ وأكتب. فتردف بإجابة سريعة: ستكونين معلمة بارعة. تبقى كلمتها مثل شرارة توهج في صدري كلما شعرت بغربتي وبأن المكان يصغرني مراتٍ ومرات. نحنُ لا ننزح بالمكان لنشعر بالغربة بل بالروح حالما تدخل عتبة جديدة. أتفحص يدي هي ترتفع لأعلى ثم تهبط لأسفل، نرسم الحرف في الهواء معًا، تعلو يدهم معي برفق ثم تهبط سريعًا. نكرر ثم نتوقف وأغوص في عين إيلاف وهي تنظر نحوي بمحبة صافية، محبة لا أخطئ فهمها. من خلف نظارتيها أفهم ما تريد مني أن أفهمه وحين تنتهي أسابيعي الأولى معهم، أدرك أن نيل المحبة هي نصف الطريق. فما الذي يبقى من الطريق كله؟ تحمل الروح خفتها في وجه الصباح كل يوم. طريق ينال منه النخل نصيبه من كلا الجانبين، طريق بين قرى الأحساء، تتضح فيه السماء بخيوطها البيضاء وتنعم عيني بلوحة الله البديعة وأنجو قبل أن أشعر بحتفي. تُبقيني هذه اللحظة في مأمن من أن أعود إلى الوراء وفي أن أيامي تلك كانت خالية من لحظة كهذه. وحين يأتي الطابور الصباحي، أخرج بشكلي الأول، طالبة تحلم أن تمسك اللاقطة وتصدح بصوتها، ويا للغرابة، هذه الطالبة تقف بهيئة معلمة. وحدها الحياة تعيد تكوين أحلامك بطريقة ما ومهما تغير عمرك أنت تظل صغيرًا لما تحب. صرت أضع الكتب أمام وجهي.. في الصالة، في غرفتي، في مكتب المدرسة، في حقيبتي، أملا في ألا أقطع الطريق. لكني أقف عالقة فيه مثل عسر هضم لا يزول. أدركت أن ما كنت أقوله إن من يريد أن يقرأ سيجد وقتًا دون أن يتعذر بالوقت، كان مجرد هراء. أنا أصارع الوقت والحياة معًا لأبقى حية. حياتي لم تعد في سكينة مثلما كانت. أعود ورأسي عبارة عن شبكة عنكبوتية، تفكر فيما حدث وتخطط للآتي وتشتغل بيديها وهي تفكر. أعود بألف رأس ولا يعود هناك حيز واحد لرأسي حتى أستند عليه. أبكي، لستُ جمادًا حتى لا أبكي. وأكثر ما كنت أبكيه، ألا يمتلئ رأسي بالكتب. حتى قررت تخصيص خمسة عشر دقيقة للقراءة قبل أن أخرج من المنزل صباحًا. وبلمحة بصر سريعة كُنت أنهي كتابًا وراء آخر. ألم تكن حجة الوقت مجرد هراء؟ نستطيع أن نملأ الفراغ في رؤوسنا ولكن هل نستطيع أن نفرغ رؤوسنا مما نحاول قوله بهذه البساطة؟ قطعًا لا.. الكتابة تحتاج منك أن تتوقف عن الركض، أن تُبقي عتبة رأسك وحيدة دون صاحب يجالسها. ولم يكن الأمر هينًا. كلما رفعت رأسي نحو جدول الكتابة المعلق في الجدار، أشعر بحلقي جافًّا ببكاء صامت اتخذ المنتصف طريقًا له. وكل ما في المنتصف لا يُجدي. نحنُ نعبأ بالبدايات والنهايات ونكره أنصاف الأشياء، نكره الوقوف عليها طويلًا. تقلص إنتاج الكتابة للضعف، صار مقتصرًا على الإجازات الأسبوعية. ولكن أليست الاستمرارية بفعل الشيء - مهما قل - أجدى من انقطاعه؟ تمضي الأيام سريعًا وينتهي الفصل وأخرج منه بروحٍ سليمة ظننت أنها لن تقاوم، وإذ بها تصير أقوى لأنها استمرت بفعل ما تحب ولأن مفردة الزمن شيء سحري تشعر بأنه يمتصك ثم ما يلبث أن يلفظك حتى تتدحرج مثل كرة وتعود إلى مكانك الأول. يحوم الطلاب حولي، أصير خلية نخل هاربة وأعي أن الألفة لا تحدث إلا بالعشرة، العشرة التي جعلتهم جزءًا من حكايات قد أدونها يومًا ما. * روائية سعودية