عالي القرشي.. الناقد الذي رثت جنازته الحروف.
«للكتابة خطرها في تاريخ الإنسان، فهي الفعل الذي يمتد بذاته عبر آفاق الزمان والمكان، ولقد ارتبطت الكتابة بالمعرفة والعلم، فكانت الكتابة مقرونة بالقراءة وهي التي تنفي عن الإنسان الأمية، وتدخله في نطاق الكتابيين الذين ينشرون العلم والمعرفة، ويكتبون الحقوق والواجبات؛ وحين تحققت للإنسان القوتان، اللغة والكتابة كان ذلك فتحًا للإنسان مكنه من الانغماس في هذا الوجود بطريقة ساحرة». هكذا بدأ فقيد الأدب الكاتب والناقد عالي سرحان القرشي، أحد أدباء طائف الشعر، سلسلة مقالاته المثرية عن فاعلية الكتابة، وحركيتها، وتطور تلقيها من كِتابه:» طاقات الإبداع»، أصدر عالي القرشي العديد من المؤلفات راصدًا التحولات الروائية، وواقعها عند الجيل الأول من الروائيين، كما تتبع التحولات الروائية عبر عددٍ من الروايات المحلية مُتخذها نماذجًا للدراسة، تميزت مؤلفات القرشي بالمحتوى الناقد التي وجد فيها بحسب ما قاله الدكتور حمد السويلم، المفتاح الذي يُفضي إلى أي نجاح في استبطان اللغة يتوقف على المقاربات التأويلية المنضبطة ، فكان مشروع القرشي النقدي يعكس التحولات الأدبية والنقدية التي تعرضت لها الثقافة المحلية في العقود الأربعة الماضية ، من تجسيد للعلاقة المتينة والتلازم القائم بين حركية النص في المشهد الأدبي وتحولات النقد الأدبي المحلي. قيمة الكتابة في الوعي الإنساني قرن عالي القرشي الفعل الكتابي بخطوات الإنسان على الأرض وتشكيل وعي الإنسان، واستشرافه لاكتشاف المجهول، وجعلها رمزًا من رموز الإنسان التي تُظهر فظاعة إحساسه بالزمن، وقلقه من الفناء، وقيمة حضوره في الكتابة، وتمسكه الحثيث بما يحقق له بقاءً بعد فناء، وذكرًا بعد انطواء، فما يتركه الإنسان وراءه يصبح كتابًا مفتوحًا يجدده الزمن، ويحضر بشكل دائم بسبب الفعل الكتابي المتجدد، وهو ما يجعلنا نقوم بذات الفعل في كتابة سيّر من فارقونا من الأدباء ليبقى ملتصقًا بالطلل كما وصفه. العلاقة بين الإنسان والبقاء يعتبر القرشي أن هناك علاقة بين الفعل الكتابي الإنساني وبين المكتوب عنه، وأيضًا هناك إمكانية انفتاح لتلك العلاقة لتقيم حوارًا مع من يتلقى تلك الكتابة على امتداد الزمان والمكان، وأن يبقى النص مفتوح الدلالة لا مغلقًا، ليسمح لحركيتها وحيويتها فيتعايش معها المُتلقي، ويضيف لها نسقًا جديدًا، فلا تكون الكتابة مجرد بقاء؛ بل بقاءٌ ولقاء تكتشف معه أفاقًا جديدة، وموروثًا نستلهمه لننمو به في أفق الحاضر. تكامل قراءة الموروث الكتابي استدل القرشي في هذا الجانب بقراءة عبدالقاهر الجرجاني للسابقين واستنطاقه كلامهم لتصحيح الأوهام التي ركن إليها من يخيم عليه كسل المعرفة ومشي الهويّنا في التلقي والاستنتاج، وهذا السبيل الذي اختطته تعابير القدماء تستوجب فاعلية التلقي، بحيث لا يعول على نهائية الرأي ممن سبقوه، وإنما يجب على المُتلقي أن يجهد نفسه ليصل بدقه؛ ذلك لأن هناك فوارق وخفايا لا يتنبه لها إلا من رُزق بحظٍ عظيم ، فالجدل العقيم المستمر حول جماليات النص، يستخرجها عشاقٌ للجدل لم تصادف هذه النصوص طبائعًا في نفوسهم لتستقطبها فيكرون عليها بآليات الرفض والتشوية. العملية الإبداعية بين الكتابة والشفوية يذكر القرشي بأنه وبالرغم من وصول الكتابة لشأن كبير في الثقافة العربية، إلا ان ذلك التحول الذي أفضت إليه العملية الإبداعية ، لم يلغِ البعد الشفوي في التلقي العربي ، بل لقد تفاعل البعدان الشفوي والكتابي تفاعلًا أفضى إلى حركة البديع في الشعر بالعصر العباسي ، تلك الحركة التي اتكأت على الكتابة في التعميق ، وعلى الشفاهية في تعميق تلك الكتابة بالصوت المكرور في الجناس، وبالصوت المتوازن في السجع ، وما بين هاجس التوصيل وهاجس الإبداع ، كانت هناك محاولة المواءمة بين طبيعتي التلقي الشفاهية والكتابية ،فمن اتساع التلقي الكتابي خرجت لنا أجناس جديدة تمثلت في تطور القصة والرواية والنصوص المسرحية ، فنجد أنفسنا نعود لمد الطريق عبر الشفاهية معتمدين على الأداء التمثيلي ، فنظل في حلقة متواصلة من دائرة التلقي الكتابي إلى دائرة التلقي الشفاهي. ورغم ما يحمله الموت من ألم الفقد والغياب، و رغم مصيريته المحتومة ، وتقدم العلوم، يبقى هو الحقيقة المؤكدة ، ورغم ما حفلت به حياة الناقد عالي القرشي بالصراع الأدبي على المستوى الفردي، والمواجهة المستميتة لإدانة الحداثة في رسالة ناجية ، ووقوفه على أبيات الشعر متبنيًا رؤية التأويل وانفتاح النصوص، وتوثيقه لتاريخ اللغة والأدب والنقد مكرسًا جهده لإظهار جوانب الإبداع وتوثيق التحولات الأدبية والنقدية ممهدًا للخوض في إبداعية اللغة ، ترك لنا مشروعه النقدي الذي يعد قيمة معرفية وإضافة علمية ممتدة الأثر، ليثبت لنا بذلك بقاء الإنسان متجددًا عبر الفعل الكتابي.